الدكتور فيصل سرور المنشاوى
نهر التايمز ( Thames River ) نهر يجرى بجنوب انجلترا ويبلغ طوله 346 كيلو متر – ينبع من منطقة كامبل الانجليزية ويمر بمدن عديدة مثل اكسفورد وسلاو ولندن قبل ان يصب فى بحر الشمال إلى جهة الشرق من مدينة لندن .. ومنذ عصر الرومان ونهر التايمز يعتبر المكان المناسب لاحتواء مخلفات ونفايات مدينة لندن .. فقد كانت مخلفات المنازل وأيضاً المخلفات الآدمية تلقى بالشوارع أو بمجارى صرف مكشوفة .. وتظل بها حتى تتعفن وتأتى عليها مياة الأمطار لتلقى بها إلى نهر التايمز – ولتبدأ مرحلة أخرى من التعفن والتحلل وهى فى طريقها إلى مصب النهر ببحر الشمال – وكانت هذه الرحلة تأخذ وقتاً طويلاً لتأثر حركة المياة ومدى انسيابها بتيارات المد والجزر عند مصب النهر .. فلو القى شيء ما من أعلى كوبرى لندن ( London Bridge ) بنهر التايمز فإنه يأخذ 80 يوماً ليعبر فقط 40 ميلاً نحو المصب ببحر الشمال .
ومع تزايد ونمو السكان بمدينة لندن ازدادت حدة المشكلة .. وأصبح من الضرورى جمع مخلفات المجارى ( Sewage ) .. وكان ذلك يتم ليلاً بواسطة عربات تجرها الخيول ليتم تصريفها بالحقول والمزارع خارج مدينة لندن – ومع أوائل عام 1800 كان اختراع المرحاض المائى والشهير بـ (Thomas Crapper's ) مما أدى إلى زيادة العبء على البلاعات والمصارف الموجودة بالمدينة .. وبصورة فجائية حدث أن تسربت كمية كبيرة من الصرف الصحى والتى لم يتم معالجتها والتعامل معها كيميائياً إلى نهر التايمز .. وصاحب ذلك أيضاً النمو الكبير لمدينة لندن كميناء تجارى هام وزيادة حركة السفن التجارية بها وما تلقيه من مخلفات مما ادى إلى ازدياد التلوث بمياة النهر .. وكان نتاج ذلك أن حدثت الكارثة فى خمسينات القرن التاسع عشر وأصاب سكان لندن وباء الكوليرا الذى أودى بحياة 14 ألف فرد عامى 1848 – 1849 م .. ومما زاد من حجم الكارثة ارتفاع معدلات حرارة الجو حتى أن عام 1856 كان يطلق عليه (عام الرائحة الخبيثة ) من شدة المرض والتعفن .
وإزاء كل ذلك تم بناء نظام جديد للصرف الصحى فى ستينات القرن التاسع عشر ومصارف بكل من مدينتى بكتون وكروسنس – وتحسن الموقف قليلاً بوسط لندن ولكن المشكلة كانت ومازالت قائمة .. وأصبحت حالة النهر سيئة بصورة ثابتة .. حيث أنه لم يتم عمل الكثير لحل المشكلة والتغلب عليها .
وكان من آثار الحرب العالمية الثانية تدمير العديد من محطات فيكتوريا للضخ ( لمياه المجارى ) حتى أنه فى خمسينات القرن العشرين كانت المياه التى تصل إلى نهر التايمز من لندن سوداء – وكانت رائحة نهر التايمز شديدة العفونة .. وكان تطفو على سطحه جزر عائمة من النفايات العفنة ولم تعد للحياة المائية به أى اثر .. ومما زاد من حدة المشكلة اختراع المنظفات الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية والتى أدت الى زيادة معدلات التلوث بمياه النهر بدرجة غير مسبوقة مما أثر على الطيور المائية وقدرتها على السباحة بمياه النهر .
رحلة التنظيف الكبير
وتحت الضغط الشعبى المتزايد لحل مشكلة تلوث مياه النهر اضطرت الحكومة الانجليزية إلى وضع الميزانية اللازمة لحلها .. وتم تشكيل لجنة خاصة تسمى لجنة ( أبحاث تلوث المياه ) والتى قامت بالبحث فى أسباب المشكلة وسبل حلها .. ووجد أن أسباب ذلك هو :
الصرف المنزلى والمصانع 79%
مخلفات المصانع ( الصرف الصناعى 12%
نفايات من أعالى النهر 4%
فروع النهر المتصلة بلندن 3%
مياه العواصف 2%
ووجد أن الحاجة لتحسين معالجة نواتج الصرف قد صارت ملحة – ولذلك تم اعادة بناء أعمال الصرف بكل من مدينتى كروسنس وبيكتون .. فتم انجاز أعمال الأولى فى 1964 والثانية فى 1974 – وقد تكلفت هذه الخطط والأعمال وقتها 64 مليون جنيه استرلينى .
كذلك تم اعادة بناء محطات معالجة لمياه المصانع القديمة والصغيرة والذى أدى إلى تصريف المياه شبه نقية إلى النهر – ومع ذلك لم تستطع هذه الانجازات من منع العواصف من كسح بعض المخلفات غير المعالجة إلى مياه النهر .. وفى عام 1973 أدت عاصفة شديدة إلى تلوث مياه النهر وانخفاض نسبة الأوكسجين الذائبة به مما أدى إلى امتلاءه بالأسماك الميتة .. ولعدم تكرار ذلك تم بذل الجهد لزيادة نسبة الأوكسجين الزائد بالمياه من خلال ضخ الهواء بتلك المياه – أيضاً تم وضع قوانين صارمة لمنع أى انسان أو مصنع من الصرف فى مياه النهر إلا بترخيص مسبق .
ومع تطبيق القوانين وجد أن مصانع الورق والمنظفات على ضفتى النهر تصرف مياهها الملوثة به .. فتم وضع الضوابط المحكمة لتحليل وتفتيت هذه المخلفات بيولوجياً ( Biodegradation ) وكان نتاج ذلك كله تحسن حالة المياه بلندن والذى يصور الرسم البيانى التالى حالها عام 1900 – وعام 1975م .
وكما يوضح الرسم البيانى كيف كانت نسبة الأوكسجين الذائبة بالمياه متدنية وأثر ذلك فى الحياه المائية به ..وكيف أن كل هذه السنوات من الجهد والعمل وانفاق الأموال قد أدى إلى تحسن ملموس لهذه النسبة ..فحل المشاكل الكبيرة لا يكون بين يوم وليلة ولكنه يحتاج إلى سنوات من العمل الدؤوب – وإن كانت الأبحاث الطبية لم توضح لنا أثر تدنى نسبة الأوكسجين الذائبة بالمياه على صحة الانسان .. فإن هناك الكثير من الباحثين فى الطب البديل يؤكدون أهمية تحسين هذه النسبة لصحة الانسان (د/روبرت يونج) وأن ذلك يسهم كثيراً فى تحسين نسبة الاوكسجين الذائبة بالدم وبالتالى تحسين أداء الجسم الإنسانى (والأمر يحتاج إلى مزيد من الأبحاث الطبية لتوضيح أهمية ذلك ) .
دعوة لإنقاذ نهر عريق
تأملت قصة هذا النهر الانجليزي الكئيب والتى حرصت على سردها بشيء من التفصيل .. وكيف احتاج علاج مشاكله الكثير من الوقت والجهد والمال .. وتأملت حال نيلنا الفتي والذي أصابه الكبر مبكراً .. وأصبحت تعلو صفحة وجهه تجاعيد الاهمال والتلوث وشحوب الضعف والخمول .. وصار حاله كرجل كبير لايقوى على المسير .. فهلا مددنا له يد العون وحاولنا حل مشاكله كما حل الانجليز مشكلات نهرهم؟! .. ان حل المشكلة من جذرها يتطلب أولاً الاخلاص ثم الوقت والمال .. فهلا درسنا المشكلة دراسة شاملة وحددنا أسبابها وكيفية علاجها .. وهلا اصدرنا القوانين التى تجرم من يسئ إليه .. وإلينا – وهلا أنشأنا المحطات التى تعالج مياه الصرف الصحى والصناعى قبل تصريفها فيه وإن كان الأفضل صرفها بعيداً عنه .. وهلا ساعدنا المنشآت الصناعية الصغيرة والكثيرة على معالجة مياهها الصناعية قبل تصريفها إليه .. وهلا وضعنا خريطة شاملة لخطوط الملاحة النهرية وألزمنا كل سفينة بها على تفريغ صرفها ومخلفاتها بالمحطة الملاحية التالية على النهر بدلاً من تصريفها بالنيل .. وهلا أنشأنا محطات لتحليل المياه بأعالى النيل وجنوب مصر وأنحائها المختلفة وعند مصبه .. لدراسة أكثر الأماكن تلوثاً وأسباب ذلك .. وهلا شجعنا باحثينا لابتكار أفضل وأبسط الحلول للمشكلة – ان حل المشكلة اليوم أسهل من الغد .. وغداً أسهل من بعد عام .. أتمنى ألا نسكت على حال نيلنا حتى لا نفاجأ بكارثة (لا سمح الله) .. ويصبح حال نيلنا قصة أخرى كئيبة .
* باحث فى الطب النبوى
0 التعليقات:
إرسال تعليق